الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (نسخة منقحة)
.تفسير الآيات (35- 39): {وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا (35) وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا (36) قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا (37) لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا (38) وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا (39)}أفرد الجنة من حيث الوجود كذلك، إذ لا يدخلهما معاً في وقت واحد، وظلمه لنفسه: كفره وعقائده الفاسدة في الشك في البعث، فقد نص على ذلك قتادة وابن زيد، وفي شكه في حديث العالم إن كانت إشارته ب {هذه} إلى الهيئة من السماوات والأرض وأنواع المخلوقات، وإن كانت إشارته إلى جنته فقط، فإنما في الكلام تساخف واغترار مفرط وقلة تحصيل، وكأنه من شدة العجب بل والسرور أفرط في وصفها بهذا القول ثم قاس أيضاً الآخرة على الدنيا، وظن أنه لم يمل له في دنياه إلا لكرامة يستوجبها في نفسه، قال: فإن كان ثم رجوع كما يزعم فستكون حالي كذا وكذا، وليست مقالة العاصي بن وائل لخباب على حد هذه، بل قصد العاصي الاستخفاف على جهة التصميم على التكذيب وقرأ ابن كثير ونافع وابن عامر وابن الزبير، وثبت في مصاحف المدينة منهما يريد الجنتين المذكورتين أولاً، وقرأ أبو عمرو وعاصم وحمزة والكسائي والعامة، وكذلك هو مصحف أهل البصرة منها يريد الجنة المدخولة، وقوله: {قال له صاحبه} حكاية أن المؤمن من الرجلين لما سمع كلام الكافر وقفه على جهة التوبيخ على كفر بالله تعالى، وقرأ أبي بن كعب: {وهو يخاصمه}، وقرأ ثابت البناني، {ويلك أكفرت}، ثم جعل يعظم الله تعالى عنده بأوصاف تضمنت النعم والدلائل على جواز البعث من القبور، وقوله: {من تراب} إشارة إلى آدم عليه السلام، وقوله: {سواك رجلاً} كما تقول سواك شخصاً أو حياً، أو نحو هذا من التأكيدات، وقد يحتمل أن قصد تخصيص الرجولة، على وجه تعديد النعمة، في أن لم يكن أنثى ولا خنثى، وذكر الطبري نحو هذا، واختلف القراءة في قوله: {لكنا} فقرأ ابن عامر ونافع في رواية المسيبي {لكنا} في الوصل والوقف، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم وحمزة والكسائي {لكن} في الوصل و{لكنا} في الوقف، ورجحها الطبري، وهي رواية ورش وقالون عن نافع، وقرأ ابن مسعود وأبي بن كعب والحسن {لكن أنا هو الله ربي}، وقرأ عيسى الثقفي والأعمش بخلاف {لكن هو الله ربي} فأما هذه الأخيرة فبين على الأمر والشأن، وأما الذي قبلها فعلى معنى لكن أنا أقول ومن هذه الفرقة، من قرأ {لكننا}، على حذف الهمزة وتخفيف النونين، وفي هذا نظر، وأما من قرأ {لكننا}، فأصله عنده لكن أنا: حذفت الهمزة على غير قياس، وأدغمت النون في النون، وقد قال بعض النحويين: نقلت حركة الهمزة إلى النون فجاء لكننا، ثم أدغمت بعد ذلك فجاء {لكنا}، فرأى بعض القراء أن بالإدغام استغني عن الألف الأخيرة، فمنهم من حذفها في الوصل، ومنهم من أثبتها في الوصل والوقف، ليدل على أصل الكلمة، ويتوجه في {لكنا} أن تكون لكن لحقتها نون الجماعة التي في خرجنا وضربنا، ووقع الإدغام لاجتماع المثلين، ثم وجد في {ربي} على المعنى، ولو اتبع اللفظ لقال ربنا ذكره أبو علي، ويترجح بهذا التعليل قول من أثبت الألف في حال الوصل، والوقف، ويتوجه في {لكنا} أن تكون المشهورة من أخوات إن، المعنى: لكن قولي: هو {الله ربي}، أما أني لا أعرف من يقرأ بها وصلاً ووقفاً، وذلك يلزم من يوجه هذا الوجه، وروى هارون عن أبي عمرو {ولكنه هو الله ربي} بضمير لحق {لكن} وباقي الآية بين، وقوله: {ولولا إذ دخلت جنتك} الآية: وصية من المؤمن للكافر، {ولولا} تحضيض، بمعنى هلا و{ما} يحتمل أن تكون بمعنى الذي، بتقدير الذي إن شاء الله كائن، وفي {شاء} ضمير عائد، ويحتمل أن تكون شرطية، بتقدير ما شاء الله كان، ويحتمل أن تكون خبر ابتداء محذوف تقديره هو ما شاء الله، أو الأمر ما شاء الله، وقوله: {لا قوة إلا بالله} تسليم وضد لقول الكافر {ما أظن أن تبيد هذه أبداً} وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لأبي هريرة «ألا أدلك على كلمة من كنز الجنة؟» قال بلى يا رسول الله، «قال {لا قوة إلا بالله} إذا قالها العبد قال الله عز وجل أسلم عبدي واستسلم»، وفي حديث أبي موسى: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له «يا عبد الله بن قيس ألا أدلك على كنز من كنوز الجنة؟» قال افعل يا رسول الله، قال «لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم»، واختلفت القراءة في حذف الياء من {ترن} وإثباتها فأثبتها ابن كثير وصلاً ووقفاً، وحذفها ابن عامر وعاصم وحمزة فيهما، وأثبتها نافع وأبو عمرو في الوصل فقط، وقرأ الجمهور {أقلَّ} بالنصب على المفعول الثاني، وقوله: {أنا} فاصلة ملغاة وقرأ عيسى بن عمر: {أقلُّ} بالرفع، على أن يكون {أنا} مبتدأ و{أقل} خبره، والجملة في موضع المفعول الثاني، والرؤية، رؤية القلب في هذه الآية..تفسير الآيات (40- 44): {فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا (40) أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا (41) وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا (42) وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا (43) هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا (44)}هذا الترجي بـ عسى يحتمل أن يريد به في الدنيا، ويحتمل أن يريد به في الآخرة، وتمني ذلك في الآخرة أشرف مقطعاً، وأذهب مع الخير والصلاح، وأن يكون ذلك يراد به الدنيا أذهب في نكاية المخاطب، وأشد إيلاماً لنفسه، والحسبان العذاب كالبرد والصر ونحوه، واحد الحسبان: حسبانة، وهي المرامي من هذه الأنواع المذكورة، وهي أيضاً سهام ترمى دفعة بآلة لذلك، والصعيد وجه الأرض والزلق الذي لا تثبت فيه قدم، يعني أنه تذهب أشجاره ونباته، ويبقى أرضاً قد ذهبت منافعها، حتى منفعة المشي فيها، فهي وحل لا تنبت ولا تثبت فيه قدم، والغور مصدر يوصف به الماء المفرد والمياه الكثيرة، كقولك رجل عدلٍ وامرأة عدل ونحوه، ومعناه ذاهباً في الأرض لا يستطاع تناوله وقرأت فرقة {غَوراً}، وقرأ فرقة {غُوراً}، بضم الغين، وقرأت فرقة {غُؤراً}، بضم الغين وهمز الواو، و{غور} مثل نوح، يوصف به الواحد والجمع المذكر والمؤنث، ومنه قول الشاعر: [الوافر]وهذا كثير، وباقي الآية بين، وقوله تعالى {وأحيط بثمره} الآية، هذا خبر من الله عن إحاطة العذاب بحال هذا المثل به، وقد تقدم القول في الثمر، غير أن الإحاطة كناية عن عموم العذاب والفساد، و{يقلب كفيه} يريد يضع بطن إحداهما على ظهر الأخرى، وذلك فعل المتلهف المتأسف على فائت وخسارة ونحوها، ومن عبر بيصفق فلم يتقن، وقوله: {خاوية على عروشها} يريد أن السقوف وقعت، وهي العروش، ثم تهدمت الحيطان عليها، فهي خاوية، والحيطان على العروش {ويقول يا ليتني لم أشرك بربي أحداً} قال بعض المفسرين: هي حكاية عن قول الكافر هذه المقالة في الآخرة، ويحتمل أن يريد أنه قالها في الدنيا على جهة التوبة بعد حلول المصيبة ويكون فيها زجر للكفرة من قريش أو غيرهم، لئلا تجيء لهم حال يؤمنون فيها بعد نقم تحل بهم، وقرأ ابن كثير ونافع وابن عامر وعاصم وأبو عمرو والحسن وأبو جعفر وشيبة: {ولم تكن} بالتاء على لفظة الفئة، وقرأ حمزة والكسائي ومجاهد وابن وثاب {ولم يكن} بالياء على المعنى، الفئة الجماعة التي يلجأ إلى نصرها، قال مجاهد هي العشيرة.قال القاضي أبو محمد: وهي عندي من فاء يفيء وزنها فئة، حذفت العين تخفيفاً، وقد قال أبو علي وغيره: هي من فاوت وليست من فاء، وهذا الذي قالوه أدخل في التصريف، والأول أحكم في المعنى، وقرأ ابن أبي عبلة: {فئة تنصره}، وقوله: {هنالك} يحتمل أن يكون ظرفاً لقوله: {منتصراً} ويحتمل أن تكون {الولاية} مبتدأ، و{هنالك} خبره، وقرأ حمزة والكسائي والأعمش ويحيى بن وثاب {الوِلاية} بكسر الواو، وهي بمعنى الرياسة والزعامة ونحوه، وقرأ الباقون {الوَلاية} بفتح الواو وهي بمعنى الموالاة والصلة ونحوه، ويحكى عن أبي عمرو والأصمعي أن كسر الواو هنا لحن، لأن فعالة، إنما تجيء فيما كان صنعة أو معنى متقلداً، وليس هنا تولي أمر الموالاة، وقرأ أبو عمرو والكسائي {الحق} بالرفع على جهة النعت ل {الولاية}، وقرأ الباقون {الحقِّ} بالخفض على النعت {لله} عز وجل، وقرأ أبو حيوة {لله الحقَّ} بالنصب وقرأ الجمهور {عُقُباً} بضم العين والقاف وقرأ عاصم وحمزة والحسن {عُقْباً} بضم العين وسكون القاف وتنوين الباء، وقرأ عاصم أيضاً {عقبى} بياء التأنيث، والعُقُب والعُقْب بمعنى العاقبة. .تفسير الآيات (45- 48): {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا (45) الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا (46) وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا (47) وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا (48)}قوله: {الحياة الدنيا} يريد حياة الإنسان بما يتعلق بها من نعم وترفه، وقوله: {كماء} يريد هي كماء، وقوله: {فاختلط به} أي فاختلط النبات بعضه ببعض بسبب الماء، فالباء في {به} باء السبب، فأصبح عبارة عن صيرورته إلى ذلك، لا أنه أراد اختصاصاً بوقت الصباح، وهذا كقول الشاعر الربيع بن ضبع: [المنسرح]والهشيم المتفتت من يابس العشب، ومنه قوله تعالى {كهشيم المحتظر} [القمر: 31] ومنه هشم الثريد، و{تذروه}، بمعنى تفرقه، وقرأ ابن عباس: {تذريه}، والمعنى: تقلعه وترمي به، وقرأ الحسن {تذروه الريح} بالإفراد، وهي قراءة طلحة والنخعي والأعمش وقوله: {وكان الله} عبارة للإنسان عن أن الأمر قبل وجود الإنسان هكذا كان، إذ نفسه حاكمة بذلك في حال عقله، هذا قول سيبويه، وهو معنى صحيح وقال الحسن {كان}: إخبار عن الحال قبل إيجاد الموجودات، أي إن القدرة كانت، وهذا أيضاً حسن، فمعنى هذا التأويل تشبيه حال المرء في حياته وماله وعزته وزهوه وبطره بالنبات الذي خضرة ونضرة عن المطر النازل، ثم يعود بعد ذلك {هشيماً} ويصير إلى عدم، فمن كان له عمل صالح، يبقى في الآخرة فهو الفائز، فكأن الحياة بمثابة الماء والخضرة، والنضارة بمنزلة النعيم والعزة، ونحوه. وقوله: {المال والبنون زينة الحياة الدنيا} لفظ الخبر، لكن معه قرينة الضعة للمال والبنين لأنه في المثل، قبل حقر أمر الدنيا وبنيه، فكأنه يقول في هذه: إنما المال والبنون زينة هذه الحياة المحقرة، فلا تتبعوها نفوسكم، وقوله: {زينة} مصدر، وقد أخبر به عن أشخاص فإما أن يكون على تقدير محذوف، وتقديره مقر زينة الحياة الدنيا، وما أن نضع المال والبنين بمنزلة الغنى والكثرة، واختلف الناس في {الباقيات الصالحات} فقال ابن عباس وابن جبير وأبو ميسرة عمرو بن شرحبيل: هي الصلوات الخمس وقال الجمهور هي الكلمات المأثور فضلها: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله، والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، روي في هذا حديث: {أكثروا من الباقيات الصالحات}، وقاله أيضاً ابن عباس، وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من طريق أبي هريرة وغيره أن هذه الكلمات هي الباقيات الصالحات، وقال ابن عباس أيضاً {الباقيات الصالحات}: كل عمل صالح من قول أو فعل يبقى للآخرة ورجحه الطبري، وقال ابن عباس بكل الأقوال دليل على قوله بالعموم، وقوله: {خير ثواباً وخير أملاً} صاحبها ينتظر الثواب وينبسط على خير من حال ذي المال والبنين دون عمل صالح، وقوله تعالى: {ويوم نسير الجبال} الآية التقدير: واذكر يوم، وهذا أفصح ما يتأول في هذا هنا، وقرأ نافع والأعرج وشيبة وعاصم وابن مصرف وأبو عبد الرحمن نسير بنون العظمة، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو والحسن وشبل وقتادة وعيسى: {تسيَّر} بالتاء، وفتح الياء المشددة {الجبالُ} رفع، وقرأ الحسن: {يُسيَّر} بياء مضمونة، والثانية مفتوحة مشددة، {الجبال} رفعاً، وقرأ ابن محيصن {تَسِير}: بتاء مفتوحة وسين مكسورة، أسند الفعل إلى {الجبال}، وقرأ أبي بن كعب {ويوم سيرت الجبال}.وقوله: {بارزة} إما أن يريد أن الأرض، لذهاب الجبال والظراب والشجر، برزت وانكشفت، وإما أن يريد: بروز أهلها، والمحشورين من سكان بطنها {وحشرناهم} أي أقمناهم من قبورهم، وجعلناهم لعرضة القيامة، وقرأ الجمهور {نغادر} بنون العظمة، وقرأ قتادة: {تغادر} على الإسناد إلى القدرة أو إلى الأرض، وروى أبان بن يزيد عن عاصم: {يغادَر} بياء وفتح الدال {أحدُ} بالرفع، وقرأ الضحاك {فلم نُغْدِر} بنون مضمومة وكسر الدال وسكون الغين، والمغادرة: الترك، ومنه غدير الماء، وهو ما تركه السيل، وقوله: {صفاً} إفراد نزل منزلة الجمع، أي صفوفاً، وفي الحديث الصحيح يجمع الله الأولين والآخرين في صعيد واحد صفوفاً يسمعهم الداعي وينفدهم البصر، الحديث بطوله، وفي حديث آخر «أهل الجنة يوم القيامة مائة وعشرون صفاً، أنتم منها ثمانون صفاً»، وقوله تعالى: {لقد جئتمونا} إلى آخر الآية مقاولة للكفار المنكرين للبعث، ومضمنها التقريع والتوبيخ، والمؤمنون المعتقدون في الدنيا أنهم يبعثون يوم القيامة، لا تكون لهم هذه المخاطبة بوجه وفي الكلام حذف ويقتضيه القول ويحسنه الإيجاز تقديره: يقال للكفرة منهم، {كما خلقناكم أول مرة} يفسره قول النبي صلى الله عليه وسلم إنكم تحشرون إلى الله حفاة عراة غرلاً {كما بدأنا أول خلق نعيده} [الأنبياء: 104]. .تفسير الآيات (49- 50): {وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا (49) وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا (50)}{الكتاب} اسم جنس، يراد به كتب الناس التي أحصاها الحفظة لواحد واحد، ويحتمل أن يكون الموضوع كتاباً واحداً حاضراً، وإشفاق المجرمين: فزعهم من كشفه لهم وفضحه فشكاية المجرمين إنما هي من الإحصاء لا من ظلم ولا حيف، وقدم الصغيرة اهتماماً بها، لينبه منها، ويدل أن الصغيرة إذا أحصيت، فالكبيرة أحرى بذلك، والعرب أبداً تقدم في الذكر الأقل من كل مقترنين، ونحو هذا هو قولهم: القمران والعمران، سموا باسم الأقل تنبيهاً منهم، وقال ابن عباس: الصغيرة الضحك، وهذا مثال، وباقي الآية بين، وقوله تعالى: {وإذ قلنا للملائكة} الآية، هذه الآية مضمنها تقريع الكفرة وتوقيفهم على خطاياهم في ولايتهم العدو دون الذي أنعم بكل نعمه على العموم، صغيرها وكبيرها، وتقدير الكلام: واذكر إذ قلنا وتكررت هذه العبارة حيث تكررت هذه القصة، إذ هي توطئة النازلة فأما ذكر النازلة هنا فمقدمة للتوبيخ، وذكرها في البقرة إعلام بمبادئ الأمور، واختلف المتأولون في السجود لآدم فقالت فرقة هو السجود المعروف، ووضع الوجه بالأرض، جعله الله تعالى من الملائكة عبادة له وتكرمة لآدم، فهذا كالصلاة للكعبة، وقالت فرقة بل كان إيماء منهم نحو الأرض، وذلك يسمى سجوداً لأن السجود في كلام العرب عبارة عن غاية التواضع، ومنه قول الشاعر: [الطويل]وهذا جائز أن يكلفه قوم، فمنه قول النبي صلى الله عليه وسلم «قوموا إلى سيدكم»، ومنه تقبيل أبي عبيدة بن الجراح يد عمر بن الخطاب حين تلقاه في سفرته إلى الشام ذكره سعيد بن منصور في مصنفه، وقوله: {إلا إبليس} قالت فرقة هو استثناء منقطع، لأن {إبليس} ليس من الملائكة، بل هو من الجن، وهم الشياطين المخلوقين من مارج من نار، وجميع الملائكة إنما خلقوا من نور، واختلفت هذه الفرقة فقال بعضها إبليس من الجن، وهو أولهم، وبدءتهم، كآدم من الإنس، وقالت فرقة بل كان إبليس وقبيله جناً، لكن جميع الشياطين اليوم من ذريته، فهو كنوح في الإنس، احتجوا بهذه الآية، وتعنيف {إبليس} على عصيانه يقتضي أنه أمر مع الملائكة، وقالت فرقة إن الاستثناء متصل، وإبليس من قبيل الملائكة خلقوا من نار، فإبليس من الملائكة وعبر عن الملائكة بالجن من حيث هم مستترون، فهي صفة تعم الملائكة والشياطين، وقال بعض هذه الفرقة كان في الملائكة صنف يسمى الجن وكانوا في السماء الدنيا وفي الأرض، وكان إبليس مدبر أمرهم ولا خلاف أن إبليس كان من الملائكة في المعنى، إذ كان متصرفاً بالأمر والنهي، مرسلاً، والملك مشتق من المالكة، وهي الرسالة، فهو في عداد الملائكة يتناوله قول {اسجدوا} وفي سورة البقرة وسورة الأعراف استيعاب هذه الأمور، وقوله: {ففسق} معناه فخرج وانتزح، وقال رؤبة: [الرجز] ومنه قال فسقت الرطبة إذا خرجت من قشرها، وفسقت النواة إذا خرجت عن الثمرة، وفسقت الفأرة إذا خرجت من جحرها، وجميع هذا الخروج المستعمل في هذه الأمثلة، إنما هو في فساد، وقول النبي صلى الله عليه وسلم «خمس فواسق يقتلن في الحرم إنما هن مفسدات» وقوله: {عن أمر ربه} يحتمل أن يريد خرج عن أمر ربه إياه، أي فارقه كما فعل الخارج عن طريق واحد، أي منه، ويحتمل أن يريد فخرج عن الطاعة بعد أمر ربه بها، و{عن} قد تجيء بمعنى بعد في مواضع كثيرة، كقولك أطعمتني عن جوع، ونحوه، فكأن المعنى: فسق بعد أمر ربه بأن يطيع ويحتمل أن يريد فخرج بأمر ربه أي بمشيئته ذلك له ويعبر عن المشيئة ب الأمر، إذ هي أحد الأمور، وهذا كما تقول فعلت ذلك عن أمرك أي بجدك وبحسب مرادك، وقال ابن عباس في قصص هذه الآية: كان إبليس من أشرف صنف، وكان له سلطان السماء وسلطان الأرض، فلما عصى صارت حاله إلى ما تسمعون، وقال بعض العلماء إذا كانت خطيئة المرء من الخطأ فلترجه، كآدم، وإذا كانت من الكبر، فلا ترجه، كإبليس، ثم وقف عز وجل الكفرة على جهة التوبيخ بقوله: {أفتتخذونه} يريد أفتتخذون إبليس، وقوله: {وذريته} ظاهر اللفظ يقتضي الموسوسين من الشياطين الذين يأمرون بالمنكر ويحملون على الأباطيل، وذكر الطبري أن مجاهداً قال: ذرية إبليس الشيطان، وكان يعدهم: زلنبور صاحب الأسواق، يضع رايته في كل سوق، وتبن صاحب المصائب، والأعور صاحب الربا، ومسوط صاحب الأخبار، يأتي بها فيلقيها في أفواه الناس، ولا يجدون لها أصلاً، وداسم الذي إذا دخل الرجل بيته فلم يسلم ولم يذكر اسم الله بصره من المتاع ما لم يرفع.قال القاضي أبو محمد: وهذا وما جانسه مما لم يأت به سند صحيح فلذلك اختصرته، وقد طول النقاش في هذا المعنى، وجلب حكايات تبعد من الصحة، فتركتها إيجازاً، ولم يمر بي في هذا صحيح إلا ما في كتاب مسلم من أن للوضوء والوسوسة شيطاناً يسمى خنزت، وذكر الترمذي أن للوضوء شيطاناً يسمى الولهان والله العليم بتفاصيل هذه الأمور لا رب غيره، وقوله: {وهم لكم عدو} أي أعداء، فهو اسم جنس، وقوله: {بئس للظالمين بدلاً} أي بدل ولاية لله عز وجل بولاية إبليس وذريته، وذلك هو التعوض من الجن بالباطل، وهذا هو نفس الظلم، لأنه وضع الشيء في غير موضعه.
|